الرباط - منى وفيق
كشف السفير والحقوقي والشاعر المغربي عبد القادر الشاوي أنه ليس حمّال خطاب وزارة الخارجية، ولا مُبلّغ رسالة صاغها بيروقراطي تافه في مكتب الأوامر أو التوجيهات، مضيفًا أنه صار يكتب بعقله عنما اكتشف في أواخر السبعينات أن ذائقته الأدبية لا تستجيب لتصوراته، معتبرًا أن الكتابة تزيد من تعمية حقيقته الإنسانية، قائلاً "إن الكتابة السير ذاتية ليست تركيبًا لغويًا لواقع حياة في الزمان والمكان، ولا لتطورها في التاريخ، ولا لوجودها ضمن هذا التطور في نظام علاقات اجتماعية معينة". يلعب مركز محمد السادس لحوار الحضارات أدوارًا ثقافية وشعورية ورمزية لا تستطيع مختلف السفارات المغربية في أميركا اللاتينية أن تقوم بها، عندما يتعلق الأمر بالسفير والحقوقي والروائي والناقد والمناضل والشاعر والمعتقل السابق والمترجم الفنان التشكيلي عبد القادر الشاوي فإن الحوار نفسَه يحتاج إلى أكثر من حوار واحد وإلى أكثر من تقديم كي تصل إلى ما لا يعرفه الكثيرون عن هذا الإنسان الشامل.. تُحاور عبد القادر الشاوي ونيّتك مُسبقة في إخراج جديدٍ لم يخرجه أحد منه من قبل. بدأ عبد القادر الشاوي حياته كأستاذ قبل أن يتدرّج في مناصب كثيرة ويصبح أخيرًا سفير المغرب في تشيلي، ويُعتبر رائد أدب السيرة الذتية في المغرب، له مؤلفات عدة فكرية وأدبية وسياسية من قبيل "كان وأخواتها، دليل العنفوان، باب تازة الساحة الشارفية، من قال أنا .. وغيرها من الإصدارات، إضافة إلى منجزاته من أبحاث ودراسات أدبية "الذات والسيرة، التخلف والنهضة، الكتابة والوجود". في هذا الحوار، يُسرّ لنا من قريب، المعتقل السابق لـ15 سنة، بكونه استحلى طعم الحريّة ربّما أخيرًا، وأخيرًا سيخصّص أكثر من وقت للكتابة عن الحياة .. - لنجدّد التساؤل الذي أنهيتَ به روايتك الساحة الشرفية (الحائزة على جائزة الإبداع المغربي) "لماذا لا أعود إلى الوهم الذي علّمني الكبرياء؟" كم مرّة في اليوم يسأل عبد القادر الشاوي (السفيرُ المغربي الحالي للمغرب في تشيلي) عبد القادر الشاوي (المعتقلَ السياسي السابق بتهمة محاولة قلب نظام الحكم والانتماء إلى تنظيم يساري محظور) هذا السؤال؟ - ربما أكثر من مرة، ولست متأكدًا من نفسي مع عياء هذا العمر وخصوصًا بعد السراح الذي وقع العام 1990. إنه سؤال يلح علي في الخلوة ومع التناقضات التي تعتري كياني وذاتي وغالبًا عندما أهم باتخاذ القرارات الواعية، أي أنه عذبني أيضًا. هذا لا يعني أن تجربتي السياسية كانت وهمية، بل حقيقية من الزاوية الفعلية، ولكنها كانت على ارتباط بالحلم والأمل، ووهمها من هذه الناحية أكبر من حقيقتها. وبما أنني لم أطلق نهائيًا الوهم ذاك... فإنني ما زلت في عذابي الحقيقي بين قناعات تكاد تكون مرفوضة وأملها الذي تحول إلى نوسطالجيا. لم أفارق التناقض، ولذلك أحيا كأي مخلوق متذمر بتنافضاتي ومشاكلي وهمومي. لقد تغيرت ولكنني لم أتبدل... حتى لا أجافي الحقيقة التي أعيشها وأعاركها. - أكان تعيين أديب سياسي من حجم عبد القادر الشاوي سفيرًا في بلد الأدباء السياسيين، تشيلي، شبيهًا بتشابك الشاحن والهاتف مثلاً؟، وهل كان مقبضَ بابٍ فتحتَ به الشاوي الآخر بعد أن أغلقتَ به باب تازة حيث وُلدت، وبعد أن تركتَ أبواب المغرب مواربة؟ - تعييني كسفير، خلافًا لكل معتقد قد يأتي عفو التأويل، محض صدفة لم تقع على آخرين. ويجب أن يُرى السفير(ة) من الزاوية الكلية، أي ممثل بلد حمله الوظيف إلى القيام بمهمة في إمكان أي كان أن يقوم بها من وجهة تداول الفرص وصناعة المهام الإدارية أو السياسية أو غيرها. أنا لست، فيما أعتقد جازمًا مع نفسي، حمال خطاب وزارة الخارجية، ولست مبلغ رسالة صاغها بيروقراطي تافه في مكتب الأوامر أو التوجيهات، ولست شاحن أي هاتف لا رومينغ له، ولا أي هاتف له أو لا سلك له . مشكلة "التأويل الجماعي" الذي يحوله الناس إلى اعتقاد وينطلقون منه في التعامل مع (وزارة الخارجية) ومهامها وموظيفيها (على خلاف باقي الوزارات الأخرى مثلا) أنه آتٍ من مرحلة لم يعرف فيها عن وزارة الخارجية المغربية إلا أنها ربيبة مخابرات معدومة الخطاب والمفاهيم والإشارات والتصورات والمواقف... قد لا يكون الأمر تغير كثيرًا، ولكن السفير، كما أنا، لست من الخارجية إلا بمثل ما كنت في السابق من وزارة التعليم، أي ذلك الموظف الذي يمثل البلد الذي يحمله في عقله لا في عواطفه فقط. أسألك: من كان بمستطاعه أن يمنع مدرسًا مثلي من تعليم أقسام الثانوي أشعار محمود درويش أو فدوى طوقان أو إدريس الملياني... مع أن المقرر الدراسي كان يملي شيئًا آخر قد يتضاد أو لا يتضاد معه؟ - وإذن، هل تقولها معي، الشاوي الناقد هو الذي يكتب للشاوي الناقد، كانتصار أوّلي له وعليه قبل أن يحاول غيرُه فعلها؟ - لقد صرت أكتب بعقلي عنما اكتشفت في أواخر السبعينات أن ذائقتي الأدبية، عماد النقد، لا تستجيب لتصوراتي. لقد تحولت من ناقد مبتدئ إلى قارئ محترف (أهم ما علمني النقد إياه)، وهو أول تحول في حياتي بعد التحول، بما أنني ما زلت على قيد الحياة، الذي أوجبه علي المرض. غالبًا ما أربط بين اهتمامي بالسيرة الذاتية التي انشغلت بقراءتها ووحدانيتي وهامشيتي وخوفي.., أي بين ذات مرتعبة ووجدان ملتهب، أو لنقل بين ذات قلقة وتوقعات مدمرة. أتوقع من كتابتي باستمرار أن تبوح بما يبطنه كياني، فلا أكتشف إلا أن الكتابة، بعد أن يخطها قلمي أو يفرغها حاسوبي، تزيد من تعمية حقيقتي الإنسانية. أكاد لا أجد لي تصنيفًا، وهو أمر يرضيني لأنه يريحني نفسيًا، ولا أجد نفسي في تصنيفات الآخرين مع أنني "أرتاح" مغرورًا لها. أعتبر نفسي الآن مضاعفًا نقديًا لها... ولذلك يكفيني غموضي. - في منظر بديع ، يجاور مسجد ومركز محمد السادس لحوار الحضارات كنيسةَ "يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة" في مدينة "كوكيمبو شمال تشيلي". ألا تجدُ أنّ بناء مسجد قرب كنيسة فكرة رومانسيةّ وقديمة في وقتٍ تجاوزت فيه تكنولوجيا الاتصالات ووسائل الإعلام الجديدة الزمان والمكان ونجحت في تعزيز الحوار بين الأديان والحضارات كما تواصلت بفعالية مع أكبر عدد من المسلمين وغير المسلمين حول العالم؟ - بناء مسجد محمد السادس في مدينة كوكيمبو الشيلية هو من قبيل الصدف التي يسرت التقاء إرادتين (مغربية وأخرى شيلية)، وربما من دون تدبر. في هذه المنطقة من العالم لا وجود لمسلمين بالمعنى العقدي (ولا تقام الصلاة مثلاً في المسجد إياه كما يمكن أن تتصوري)، بين أن الفكرة الأصلية التي راودت الذين فكروا في المشروع هي جعل مدينة كوكيمبو قبلة للتحاور المفترض بين الديانات السماوية الثلاث. غير أن مشروع إقامة مكان يهودي للصلاة لم تتم لاعتبارات لا أعرفها، بينما تم إنجاز الصليب الصخم على رابية مكشوفة صار مكانًا للتعبد المسيحي ووجهة سياحية، وقام المسجد (إلى جانب المكتبة) للتعبير عن الحضور الإسلامي، فصار معلمة سياحية أيضًا تستقبل سنويًا أكثر من ثلاثين ألفا وأكثر. أود أن أقول لك إن المعلمة المغربية إياها، وهي الوحيدة في أميركا اللاتينية كلها، تلعب أدوارًا ثقافية وشعورية ورمزية لا تستطيع مختلف السفارات المغربية أن تقوم بها حتى ولو اجتمعت على مشروع متكامل للتعريف بالمغرب وبمكوناته العامة. رمزية الأشياء والمعالم، بصرف النظر عن وجود قدسية معينة من عدمها، تتجاوز في أبعادها بعض الاحتمالات المرتبطة بالتكنولوجية الحديثة... وذلك للأثر العقدي أو التاريخي أو الفني التي لها والمرتبط هو نفسه بمرجعيات لها سياقها ومراميها. - مرّت عديدُ السّنواتِ على روايتك "كان وأخواتها" التي اعتُبرت ذاكرة جماعيّة لتجربة سياسيّة تميزت بالقمع الشديد والاستبداد، ألن تخرج إلينا أخيرًا برواية "إنّ وأخواتها" لنطالع ذاكرة فرديّة بامتياز لا تحيلنا إلّا إليها ولربّما تنصب ما تمّ رفعه أو بمعنى آخر ترفع النّصبَ عمّا تمّ النّصب عليه؟ - روايتي "كان وأخواتها" كانت، كما توقعت لها عندما شرعت في كتابتها وأنا داخل السجن، للتعبير الرمزي عن واقع عشته وعاشني وخبرته وخابرني. مبدأ هذه الكتابة هو الألم. الفراغ من كتابتها ونشرها بعد ذلك كان هو الألم الثاني. لقد تسببت لي هذه الرواية (هل هي رواية؟) فيما لا حصر له من المشاكل الاجتماعية والإنسانية كنت في غنى عنها وأنا في ضيق ذلك السجن المدمر للأبدان وللنفوس وللعقول. المشكلة الوحيدة التي لم أتوقعها هي تلك التي تمثلت في منعها، لأنني افترضت بسذاجة أن الكتابة عن الألم لا تحتاج إلى ترخيص إو إلى إذن. والحقيقة أنها تعرضت لنوعين من المنع: المنع الرفاقي الذي كان عنيفًا من الناحية النفسية. وخصوصًا عندما اشتبه قوم من المعتقلين أنهم مقصودون بالأوصاف والصفات والسلوكات والمواقف... ومنها ما كان له في زمنه وقع "الخيانة". أما المنع الثاني، وهو الذي لم أتوقعه أيضًا، فكان إجرائيًا، أي حرمان فئة من القراء المفترضين من الاطلاع على العمل والتفاعل أو عدم التفاعل معه. فقط. ولو فكرت اليوم بمنطق ما أنا عليه لما كتبت تلك الرواية إطلاقًا. لا لأنني أقبل أو أرفض ما ورد فيها من كتابة أو بوح أو توصيف أو تعرية .. إلخ، ولا لأنني أتنكر لمضمونها، وقد كان مضمونًا ملتهبًا، ولا لأنني في الأخير أعتبر ما ورد فيها متناقضًا مع ما تطورت إليه وأجدني في موقف من يريد تبريره... بل فقط، وقد يكون هذا مفاجئا للكثيرين، لأنها جعلت مني كاتب الكتاب الوصمة، كتاب الكتاب الشهرة، أو كتاب الصورة التي يقدرها الآخرون لي. تمامًا كما حصل لبعض الكتاب وظلوا طوال حياتهم يكابدون مكابدة اليائسين للتغلب عليه (محمد شكري مع الخبز الحافي كمثال يحضرني هكذا..). لن أكتب رواية أخرى بالمعني نفسه ولا بالشعور نفسه ولا بالأسلوب نفسه ربما. ستقولين: هذا شيء طبيعي!. أجيبك مرة أخرى: لا، ليس من باب الطبيعي، بل لعله من باب المستحيل المؤكد، لأنني - وهذا هو السبب- استحليْت طعم الحرية، وأريد أن أخصص أكثر من وقت للكتابة عن الحياة. - أدب السيرة الذاتية من فنون الأدب التوثيقي وهو سيرة شخصية بضمير المتكلم أو ضمير الغائب، يرويها صاحبها بنفسه مثل الأيام لطه حسين، وقد يلعب فيها الخيال دورًا مثل اعترافات جان جاك روسو، وقد تنصبّ على التجربة الروحية والتحليل النفسي الاستبطاني مثل اعترافات القديس أوغسطين، وقد تكون صادمة مثل يوميات أندريه و (مذكرات لص) لجان جينيه.. وهناك أيضًا تجارب نجيب محفوظ والعقاد والمازني وهيكل وغيرهم.. ماذا عن عبد القادر الشاوي باعتباره رائد أدب السيرة الذاتية في المغرب ومبدعا في فنّ التخييل الذاتي ..فيم اختلفت عن كلّ هؤلاء ؟ - خرجت إلى أدب السيرة الذاتية تنظيرًا وتأليفًا بسبب تجربة الاعتقال، ظروف السجن، تكويني الهامشي الذي وجدت أن في عزلته لذتي. ثم خجلي الدائم أيضًا. ولكن علاقتي بالسيرة الذاتية ليست "واقعية" ولا ساذجة، بل مركبة وعميقة. أريد القول إن الكتابة السيرذاتية ليست تركيبًا لغويًا لواقع حياة في الزمان والمكان، ولا لتطورها في التاريخ، ولا لوجودها ضمن هذا التطور في نظام علاقات اجتماعية معينة. لا شيء من ذلك البتة. مع شيء من التعبير القطعي هذا. أريد القول إن كتابتي للسيرة الذاتية، وكما درستها أيضًا، هو في نهاية الأمر إنتاج مسار موازٍ لحياتي الشخصية كما أعقلها في الكتابة، وأبلورها باللغة في علاقة بالذهن وبالحافظة وبالزمن في ذهابه بين الماضي والحاضر. لقد قمت بإنتاج صور معينة عن كينونتي، إذا شئت، من خلالي إدراكي لهذه الكينونة أثناء عملية الكتابة نفسها لا قبلها. ولهذا الأمر أعتبر أن جنس السيرة الذاتية هو هذا الصنيع بالذات، أما غيره فهو من باب الاحتمال، ومن طبيعة التأويل الساذج للكينونات، ومن "الاعتقادات" التي لا تصمد أمام دراسة الجنس الأدبي في تعقيده من الزاويتين اللغوية والفنية. في كتاباتي السيرذاتية لعب لغوي يتشكل من خلال الحكايات التي أرويها من دون أن أكون متأكدًا من صحتها ولا أستطيع، ومن دون أن أكون متأكدًا من أنني عشتها ولا أستطيع، ودون أن أكون مدركا لصدقها من عدمه لأنني لا أتوخى لا الصدق ولا الكذب كما لا أجد نفسي بينهما. أسمح لنفسي بالقول. من دون تدبر حقيقي: إن السيرة الذاتية هي الذات المتحولة باللغة. لا وجود لسيرة ذاتية خارج اللغة إلا لمن يتوهم غير ذلك، أو يعتقد صادقًا، وتلك مصيبة، أنها حياته الذاتية. السيرة الذاتية هي صورنا التي تتردد وتنثال على الذاكرة في زمن الكتابة بقصد بناء هوية موازية نسترضي بها وجودنا الخاص ضمن أزمنة معينة للوجود الاجتماعي أو الثقافي أو الاعتباري... إلخ. - فليكن سؤالي هذا مباشرًا: أما زلت تحسب تصوراتك السياسيّة يساريّة؟ يساريّة تمامًا؟ - بالتأكيد... لأن اليسار لا يتحدد بالانتماء لحزب بل لقضايا أجد نفسي لحد الآن مؤمنًا بجدواها وعدالتها ومنطقها أيضًا. لنقل إنني من اليسار الإنساني الذي أبرر به وجودي كعامل في سبيل التقدم والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وهذا من دون أن أتنصل من ارتباطاتي التاريخية ولا من تجربتي السياسية الخاصة والمتميزة التي علمتني كما علمت غيري ربما، ضمن أشياء أخرى تعلمتها من الحياة عمومًا، أن صدقي كامن في استقلالي الفكري، وأن هذا هو أساس نضالي، داخل المربع الذي أفترضه لهذا النضال، في سبيل التغيير. - ما الذي يعوق في نظرك قيام ثورة ثقافية وفكرية في المغرب؟ هل تعوزنا القوّة أم القوى الثقافية نفسها؟ - ... بالمعنى الكلاسيكي الذي ارتبط بالتصورات الماركسية للثورات في العموم هو قيام الثورة نفسها. التي هي من صنع وابتداع العاملين في سبيلها بالوسائل التي كانت مقررة ومفكرًا فيها منذ القرن الثامن عشر. وعمومًا فإن الثورة الثقافية هي فرع من الثورة هذه، أي ذلك القلب الذهني الشامل الذي يغير الأفهام والمنظورات والعادات كذلك. من يستطيع القيام بذلك الآن؟ وهل عندما دشنتها الثورة الصينية في الستينات حققت مرادها منها؟. أميل أكثر إلى اعتبار الثورة الثقافية من صميم التحول الذي يجب أن يطرأ على الذهنيات من خلال التعليم والتربية وسواهما، وأساسًا من خلال قيام الديمقراطية، وهي سياسة وتدبير، كأساس منظور وممكن لتنظيم العلاقات على مستوى الحقوق والواجبات وإقامة الحكم وتوزيع الثروات. المغرب، فيما يبدو للعاملين في سبيل التغيير، ما زال غارقًا في متطلبات يومه. وعلى الثورة أن تكون غده. - اتحاد كتّاب المغرب يسير في الاتجاه المعاكس لتطور الحياة الثقافية في المغرب والتي تتعدد وتنفتح في حين أنّ الاتحاد بقي منغلقًا على بنيته ورؤيته التقليديّة، ألا تبدو فكرة إقامة اتحاد كتاب مغربي حرّ مقابل لهذا الاتحاد فكرة لا بأس بها؟ أم أنّها ممكنة وغير مجدية على اعتبار الجمعيات الثقافية والتي تتواجد هنا وهناك ولا يعمّر غالبها طويلاً؟ - ربما عادت الحياة شيئًا ما لاتحاد كتاب المغرب بعد مؤتمره الأخير. ومن باب الانصاف أن نقول ثلاث مسائل مترابطة: أن اتحاد الكتاب لم يكن أبدًا الإطار الوحيد والشامل لجميع الكتاب والكاتبات في المغرب، بل فقط الإطار البارز والتاريخي الذي ارتبط بتاريخ المعارضة الثقافية السياسية منذ أواسط الستينات. لقد قامت إلى جانبه جمعيات مختلفة، غير أن ديناميته الثقافية المعارضة جعلت منه من الناحية الرمزية المجال المستحق والوحيد لنشاط الكتاب والمثقفين طوال ثلاثة أو أربعة عقود من الزمن أو يزيد قليلاً. المسألة الثانية أن الاتحاد كان مختلفًا باستمرار باختلاف الحساسات التي توالت على زمام أموره. ويمكن أن نقول بتحديد أكبر إن وجود مثقفين ينتمون لثلاثة أحزاب سياسية أو أكثر كرس الاعتقاد التقليدي بأن بنية الاتحاد بنية مغلقة ولا يمكن اختراقها. هذا مع وجود وسيادة أساليب غير ديمقراطية أو تحكمية أو حتى "إرعابية" في التعامل وقفت أيضًا في وجه ذلك. أما المسألة الأخيرة فهي أن الاتحاد كان باستمرار ممثلاً لنفسه كإطار لتجمع فئة من المثقفين وليس لأحزابهم بالضرورة. وكان العامل الحاسم في هذا التمثيل الذاتي يكمن في طبيعة المثقفين الممثلين أنفسهم لا في قياداتهم السياسية أو بنياتهم التنظيمية وإيديولوجياتهم التبريرية. لم تكن الأحزاب المعارضة تملك سياسة ثقافية يمكن تملكها والعمل على هَدْي مواقفها وتصورها، بينما كان المثقف المغربي العامل في إطار الاتحاد يملك من المبررات ما يمكنه من سن توجهات ثقافية تلتقي مع المطامح المعارضة. لقد اعتقدت منذ فترة طويلة جدًا، أنا الذي قضيت نائبًا لرئيس الاتحاد سبع سنوات، أن الاتحاد لا يمكن بأي حال أن يكون الإطار الوحيد والممكن للعمل الثقافي، ولكن المبادرات المنافسة له ورمزية الطاغية نفسها لم تسهما في إيجاد إطارات بديلة أو موازية أو نقيضة. مع وجود، كما قلت، كثير من الجمعيات المدنية الثقافية في مختلف حقول المعرفة إلى جوار الاتحاد، وفي كثير من الأحيان بدون تناقض يذكر. وربما كان الأهم في هذا السياق، خلافًا لفكرة خلق اتحاد كتاب مغربي حر الذي قد يصبح.. من باب الاحتمال مثل الاتحاد الذي جاء ليخلفه، هو العمل على طرح مبادرات دينامية حرة للعمل الثقافي المختلف الذي يأخذ الآن في الاعتبار مجموع التحولات الطارئة في مختلف ميادين العمل والمعرفة والتنشيط، اعتمادًا على تصور ثقافي يشرح دور المثقف وأهمية العمل الثقافي والمنافع الرمزية المرتبطة بها ضمن بنية المجتمع الديموقراطي. - كان هناك لغط كثير بشأن مسرحية "فوا أوف" المقتبسة من روايتيك "كان وأخواتها" و"من قال أنا".. هل رويت القصّة الجادة بطريقة كوميديّة؟ ألا تخشى أن تُروى سيرتك يومًا ما بطريقة كوميديّة أيضًا؟ - لم أطلع على النص المسرحي كما أُعد، ولم أشاهد المسرحية كما عرضت. وربما توقفت الفرقة، فيما يبدو، عن عرضها لأسباب تخصها. لا يهم. أما علاقتي بهذا الموضوع جملة وتفصيلاً فكان من خلال الترخيص الشكلي بالقبول الذي أرسلته إلى الأخت نعيمة زيطان. وهي التي لم تكن تحتاج إلى أي ترخيص، مثلما أرى أن العمل نفسه لم يكن يستحق ذلك أيضا. أرى أن التأويل من طبيعة القراءة نفسها، ويعني هذا أن القبول بتحويل النص عن جنسه الأصلي هو في المحصلة قبول بتأويل بنياته العامة من تركيب ونحو وصرف وما إلى ذلك. بما يتلاءم ومختلف المحددات المفترضة لعملية التأويل. الناس يتخاصمون، ربما رمزيا إن لم يكن واقعيًا، على التأويل، كما يسعون من خلال الصراع إلى تملك النصوص، ولكنني لا أجد في هذا ما يبرر قبولي أو رفضي لنصي أو لنص غيري مؤولا. لقد تملك نصي، على الأرجح،369 من أوَّلَه أولا وأخيرا، ولم تعد لي به إلا علاقة متفرج بمشهد (مشاهد). من حقي أن أفترض أن نصي ليست له أية قيمة تجارية، ولا يمكن لأي كان أن يؤوله على الوجه الذي به كتبته، وهذا ما يمنحني الطمأنينة الخاصة بأن نصوصي، وللآخرين أن يفترضوا ذلك لو أرادوا، ستبقى ما حييت ملكًا لي لن ينازعني فيها أحد. أما السبب فيعود إلى أنني كتبتها مع نفسي بما لا يستطيع أي كان أن يدرك كنه كتابتها إلّايَ أثناء الكتابة. ومع ذلك أشكر لنعيمة زيطان أنها حيّت صداقتنا القديمة بطريقة موحية.