مع مارسيل خليفة الأشيب المهاب، ذي الشعر المسترسل والصوت الأصيل، وفي حضرته دائما، في بيروت، وكل مكان، حيث يكون ويذهب، ويحيي حفلاته وينظم مهرجاناته، فلسطين حاضرةٌ لا تغيب، تتقدم ولا تتأخر، تسمو وتعلو، في بهائها وعظمتها، ومكانتها وقيمتها، وقدرها وقدسيتها، وكبريائها الخالد ووجودها الماجد، وعشقها الآسر، عبر كلماتٍ لا تبلى مع الزمن، ولا تبهت مع الأيام، ولا تنساها الأجيال القديمة، ولا تلك التي ولدت مع الجرح، واستفاقت في ظل الألم، وعرفت فلسطين جريحةً تنزف، وأسيرةً تعاني، كانت فلسطين مع مارسيل تغني شعرا، وتشدو لحنا، وتسمو فوق الجراح أملا.
فلسطين فيها خليفةٌ، يبدأ حفلاته، وبها ينهي وصلاته الغنائية، كالدر ينظمها، وكقطرات الندي ينثرها، وكعطر الياسمين يضوعها، لا يحتاج إلى من يذكره بها، أو يشجعه عليها، أو يطلب منه بعضها، فهي عنده حاضرةٌ كالخبز، وضرورة كالماء، ولا غنى عنها كالهواء، لا يغنيها طلبا لتصفيق الجمهور، ولا سعيًا إلى شهرة بين الناس، ولا تميزا له بين المغنين؛ بل لأنه بها يؤمن، وفي عدالتها يعتقد، وفي انتصارها لا يشك، فعاشت في صدره بين الحنايا والضلوع قضيةً مقدسة، ويضحي من أجلها، ويعطي في سبيلها، ولا يتأخر في الانتصار لها دائمًا، كلمةً ولحنا، وشعرا وموسيقى.
في قصر بيت الدين حضر منتصب القامة يمشي، بهامته المرفوعة، وقامته الممدودة، وهيئته الشامخة، وسبقته جموعٌ كبيرة، واصطفت في القصر جماهيرٌ كثيرة، صغارٌ وكبارٌ، وكهولٌ وشيوخ، ونساءٌ ورجال، كلهم ينتظر صوته الذي عودهم أن يصدح دائمًا أغاني وطنية، وأهازيج ثورية، وموسيقى أبلغ من الكلمة، وأكثر أثرا من القصيدة، وأشد فعلا من الرصاصة، وأبعد مدىً من الصوت، جعلت منه حقًا مغنيًا الثورة، وحادي ركبها، يبث في رجالها الحماس، ويبعث بين أهلها الأمل، ويزرع في الأجيال اليقين.
على الرغم من أنّ الجمهور في أغلبه لا ينتمي إلى أحزابٍ ولا إلى قوى وطنية، ولا ينتظم في صفوف الفدائيين ولا يلتزم تعليمات المنظمات، ولا يعرف أسماء بعضها؛ ولكنه يعرف اسم فلسطين وقدسها؛ إلا أنه كان يموج مع الكلمات كالبحر، ويهتاج مع الألحان الوطنية كما البركان، تزين أعناق الكثيرين منهم الكوفية الفلسطينية، الحمراء والسوداء معًا، ويسبقهما علم فلسطين يرفرف في أيدي الحضور من الفلسطينيين والعرب، علمٌ لم يبلَ مع الأحداث، ولم تبهت المحنُ ألوانه، ولم تضيع المصائب بريقه، وسيبقى باقيا يرفرف بالرغم من الخطوب، ومرفوعا على الرغم من المكائد والمؤامرات.
في قصر بيت الدين الذي أدخله للمرة الأولى، على الرغم من أنّه شهيرٌ وذائع الصيت، وأحد رموز لبنان ومعالمه التاريخية والفنية، الذي أصبح من خلال مهرجاناته الفنية علمًا يعرفه العرب جميعًا، وإليه يتجهون كل صيفٍ على مدى ثلاثين عامًا مضت، وفيه سيدٌ عربيٌ كريمٌ، يتقدم الحضور ويسبقهم، ويرحب بالزائرين ويبش في وجوههم وكأنهم ضيوفه، ويهب لملاقاتهم واستقبالهم وكأنهم في بيته، الذي يزهو بالمقاومين، ويفخر بالثائرين، ويعمل أن يكون كوالده، ويجهز ولده لأن يكون من بعده كجده زعيما، مقاوما ثائرا، وناصرا لقضايا العرب المحقة، وجنديا في صفوف المقاتلين لأجل فلسطين، وفي سبيل استعادتها وتحريرها.
ذهبت إلى قصر بيت الدين فقط، لأسمع لمارسيل خليفة، يغني لفلسطين وقدسها، وللعرب وأحزانهم، وللثورة ورجالها، ولأيقونة الثوار الأمميين ورموزهم، فوجئت أنني بين العرب جميعًا، من كل مكانٍ جاؤوا، ومن كل حدبٍ وصلوا، إسلاميين وقوميين، ويساريين واشتراكيين، مقيمين ومغتربين، خليطٌ من العرب عزَّ أن يجتمعوا في غير هذا المكان، أو يلتقوا في غيره، فخلافاتهم تمزقهم، ومشاكلهم تبعدهم، وهمومهم تقسي قلوبهم؛ ولكنهم لأجل فلسطين يأتون، وعليها يجتمعون.
أصدقاءٌ كثيرون وجدتهم سبقوني إلى القصر، سياسيون عربٌ، وأساتذةٌ مغاربة، وروادٌ توانسة، وكتابٌ مصريون، ومناضلون فلسطينيون، وثوارٌ عراقيون، ومثقفون لبنانيون، وأردنيون مقاومون، وأجانبٌ عديدون، لا يعرفون اللغة العربية؛ ولكنهم يفهمون موسيقاها، ويستمتعون بإيقاعاتها، وشبابٌ يافعٌ يتطلع إلى فلسطين، ويرى في مارسيل مناضلا ثوريا، ومقاوما أصيلا، بصوته وفنه، وموسيقاه ولحنه، ويقينه وأمله.
صمت الجمهور وهم آلافٌ، يملؤون القصر ويشغلون كل المقاعد، وسكتوا فلا تكاد تسمع لهم همسا، وحبست الكلمات أنفاسهم، يسمعون "جواز السفر" الذي بات حلما، و"فكر في غيرك" التي باتت مفاهيم مستحيلة، وهبوا واقفين بصوتٍ واحدٍ يرددون "منتصب القامة أمشي"، وبحزنٍ وألمٍ صمتوا لكلمات "وقفوني عالحدود"، وتمنى عليه الجمهور أن يغني "إني اخترُتك يا وطني، حُبّا وطواعية، إني اخترتك يا وطني سِرا وعلانية"، ولكن "يا بحرية" هب لها الحضور وانتفض، وغنى معه وطرب، ولما انتهى من حفله عاد، إلى فلسطين عاد، ولجمهورها رجع، وغنى لها من جديد.
معًا سنعبر الجسر إلى فلسطين، سنعبره خفافا وأبطالا، وسنعود إليها فاتحين، وسنجتاز الحدود ونحطم القيود، ونرفع في سمائها أعلامنا من جديد، ففي فلسطين "أحن إلى خبز أمي، وقهوة أمي، ولمسة أمي"، وفيها ستعود "ريتا" الصغيرة بعيونها العسلية وظفائرها الجميلة، ولن يوقفنا على الحدود أحدٌ، ولن يطلب منا للعبور هوية، ولن يلزمنا للمرور جواز سفر، ويومها لن نكون عارين من الانتماء؛ بل سيكون لنا وطن، من جبهته ينشق سيف الضياء، ومن جوفه ينبع ماء النهر، وعلى أرضه يسقط المطر.
تحيةً فلسطينيةً إليك مارسيل، وإلى ولديك المبدعين الرائعين رامي وبشار، وإلى الكندي المتضامن جوليان، والمصري الفنان إسماعيل رجب، الذين قدموا لنا منفردين ومعا، لوحةً فنيةً ووطنيةً رائعة، كانت فلسطين في قلبها زهرة، وتحيةً إلى سيد قصر بيت الدين وراعيه الذي قال لي يوما بلسانه، معلقا على زوار القدس من العرب، الذين دخلوها تحت الاحتلال وبموافقةٍ منه، لزيارتها والصلاة في مسجدها الأقصى، "إن صلاةً في المسجد الأقصى لا تصح بغير عمرَ أو صلاح الدين".