الأدب والاقتصاد متى يلتقيان 13

الأدب والاقتصاد.. متى يلتقيان؟ (1-3)

الأدب والاقتصاد.. متى يلتقيان؟ (1-3)

 عمان اليوم -

الأدب والاقتصاد متى يلتقيان 13

بقلم : عمار علي حسن

يبدو لأول وهلة أن الاقتصاد بما فيه من أرقام وعلاقات مادية، والأدب بما فيه من تجليات وخيالات، خطان متوازيان لا يلتقيان. لكن النظرة المتمعنة النابعة من الواقع تكشف عن وجود علاقة بين هذين المفهومين. فالاقتصاد يؤثر فى الأدب، بشكل غير مباشر، ابتداءً من الأشكال الأدبية ذاتها، وحتى مدارس النقد الأدبى، مروراً ببعض المواضع، مثل المستوى الطبقى للمؤلف، ورأس المال الثقافى، ونمط الإنتاج الفنى، ومضمون العمل الأدبى.. الخ.

بدايةً فإن الأدب يعكس الوضع الاقتصادى فى فترة زمنية معينة. فما كتبه الجاحظ فى «البخلاء» يعد شهادة مهمة على الوضع الاقتصادى الاجتماعى، الذى كان سائداً فى العصر العباسى الثانى، حيث أظهر مدى التفاوت، بين الذين يحيون فى ترف وبطر، ومن يعيشون فى فقر مدقع. وحالياً يعكس الأدب انتشار الأنماط الاستهلاكية، وثقافة «البترودولار» فى عالمنا العربى، من خلال تركيزه على اغتراب الإنسان واستلابه، وحالة التهميش، التى تعيشها قطاعات عريضة من المجتمع. وبالقدر نفسه فإن رايموند وليامز يرى أن فهمنا للتطور الصناعى فى أوروبا لن يكتمل دون الرجوع إلى بعض الروايات التى كُتبت عند منتصف القرن التاسع عشر، إذ إنها «تقدم صورة بالغة الحيوية، عن مظاهر الحياة فى مجتمع صناعى، يفتقد الاستقرار».

وعلى الجانب الآخر فإن تأثير الاقتصاد فى الشكل الأدبى يتضح فى الرواية أكثر من غيرها، حيث يرى كثير من النقاد أنها تعبير عن وضع اقتصادى معين. فـ«جولدمان» يعتبر أن الرواية هى العمل الأدبى، الذى يعكس الحياة اليومية فى مجتمع يطبعه نظام السوق. فشكل الرواية يبدو كما لو كان نقلاً للمفردات الحياتية فى المجتمع الفردى، التى يفرزها إنتاج السوق، وهى التى ترصد سلوك البشر فى بحثهم الدؤوب عن «القيم الاستعمالية»، أى القيمة الملموسة للأشياء، فى مواجهة «القيم التبادلية»، التى تقوم على الإنتاج من أجل السوق نفسه، وليس من أجل الاستهلاك.

وقد اقترن ظهور الرواية فى أوروبا ببزوغ فجر البرجوازية الأوروبية، لتصبح هى الشكل الأدبى الأساسى لمجتمع الرأسمالية الصناعية، وما يرتبط به من انتشار المدنية. فالهجرة من الريف إلى المدينة بحثاً عن الرزق، ركزت الأضواء على موضوعات، صارت مادة خصبة للروائيين الأوروبيين عند منتصف القرن التاسع عشر، مثل الزحام والاغتراب والصراع الاجتماعى، والتفاوت الطبقى.

ومن هذا المنطلق قسم «جولدمان» تطور القصة فى الغرب إلى ثلاث مراحل، الأولى: مرحلة البطل المتأزم، المعبر عن الاقتصاد الحر، والثانية: مرحلة القصص التى تحاول إلغاء القيم الفردية، وتعبر عن الاقتصاد الاشتراكى الموجه، أما الثالثة: فهى مرحلة القصص، التى تحاول أن تحل السير الجماعية محل السير الفردية، وتتسم بغياب الموضوع، وانتهاء البحث المنظم عن «قيم» من أى نوع.

ولا شك أن هذا التقسيم، يظهر مدى ارتباط السرد الأدبى بالتطور الاقتصادى/الاجتماعى، فى أوروبا، الأمر الذى يطرح تساؤلاً عما إذا كانت الرواية العربية قد اقتفت هذا الأثر، من عدمه، خاصة فى ضوء الرؤى التى تؤكد أن إسهام الغرب فى «صنعة» الفن الروائى لدى العرب، يفوق بكثير الإسهام الذى قدمه التراث العربى، فى هذا المضمار.

إن ظهور الرواية فى عالمنا العربى، ارتبط بنشأة المدينة، وظهور الطبقة الوسطى، التى إن كانت تمثل وعاء للقيم الإيجابية، فإنها بالنسبة للرواية مثلت، فى البداية، القاعدة التى تصعد الرواية بصعودها وتهبط بهبوطها. لكن الرواية العربية لم تراوح مكانها، ولم تعد أسيرة ارتباطها بالطبقة الوسطى، بل تعددت وتنوعت، وطوقت طبقات اجتماعية أخرى، معبرة عن همومها وأحوالها، وأصبحت تاريخ مَن لا تاريخ لهم، من الفقراء والمسحوقين، الذين يحلمون بغد أفضل، خاصة مع اتجاه التركيبة الاجتماعية للأدباء نحو الشرائح الدنيا.

فبعد أن كان معظم الأدباء، فى المراحل الأولى للرواية العربية، ينتمون إلى فئات تبدأ من الطبقة الأرستقراطية، حتى الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، أخذت الرواية العربية تعرف كتاباً انحدروا ليس من الشريحة الدنيا للطبقة الوسطى فحسب، بل أيضاً من «قاع المجتمع»، مروراً بأبناء العمال والفلاحين. وقد ساهم هذا فى إثراء الإبداع الروائى، وفى أن تقفز الرواية لتكون «ديوان العرب» الحديث، لأن نزول كتاب مختلفى المكانة الاجتماعية إلى غمارها، جعلها قادرة على تسجيل حياة مختلف القطاعات البشرية، بشكل أكثر دقة وأمانة.

وإزاء هذا الوضع قسم بعض النقاد النماذج الروائية العربية إلى: الرواية التقدمية، والرواية الرجعية، ورواية البرجوازية الصغيرة، انطلاقاً من المنظور الطبقى، وذلك على عكس ما توصل إليه ناقد فذ مثل «باختين»، الذى سعى إلى البحث عن جذور الرواية فى أحضان الثقافة الشعبية الأوروبية، متخلياً عن الربط المألوف بين الرواية وقيم الطبقة البرجوازية.

(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى).

omantoday

GMT 00:43 2024 السبت ,13 إبريل / نيسان

ظلال الجميزة.. «قصة قصيرة»

GMT 00:05 2018 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

آفة أن يُحارَب الفساد باليسار ويُعان باليمين

GMT 06:32 2018 الجمعة ,11 أيار / مايو

الكتابة تحت حد السيف

GMT 05:12 2017 الجمعة ,15 أيلول / سبتمبر

سيادة «القومندان» عارف أبوالعُرِّيف

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الأدب والاقتصاد متى يلتقيان 13 الأدب والاقتصاد متى يلتقيان 13



الملكة رانيا تتألق بإطلالة جذّابة تجمع بين الكلاسيكية والعصرية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab