الحضارة الغربية وأزمة الهوية الأخلاقية

الحضارة الغربية وأزمة الهوية الأخلاقية

الحضارة الغربية وأزمة الهوية الأخلاقية

 عمان اليوم -

الحضارة الغربية وأزمة الهوية الأخلاقية

بقلم:إميل أمين

خلال لقاء إعلامي مع شبكة «فوكس نيوز»، مساء الأربعاء الماضي، أجاب الرئيس السابق والمرشح الجمهوري الحالي دونالد ترمب، عن أسئلة الجمهور بشأن الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري.

مما لفت أعين وأذهان المتابعين، تلك اللهجة شبه اليائسة والبائسة التي تحدث بها ترمب عن أميركا، والتي تتجاوز حالة الفوضى الحادثة في السياسات الأميركية، لا سيما الخارجية منها، إلى منطقة المستقبل الأخلاقي والإنساني لأميركا التي مثّلت يوماً ما الحلم الباهر للمعذَّبين في الأرض، والباحثين عن الحرية ورفاهية العيش، وذلك بقوله: «نقترب من نهاية بلدنا الرائع»... هل من شفرة أخلاقيةٍ ما في هذه العبارة القصيرة، ينبغي لنا أن نفككها ونحللها، لمعرفة قصد ترمب، وما إذا كان على حق؟

المقطوع به أن الأزمة الأخلاقية الأخيرة الخاصة بجيفري إبستين، وقصة جزيرة الشيطان، التي امتلكها، وما جرى فوقها من موبقات تنافي وتجافي روح أميركا، تبدو منطلقاً لتساؤلات عميقة وجذرية عن مستقبل البلاد الأخلاقي، قبل الاقتصادي والسياسي، وهل تموت روح أميركا الأولى للآباء المؤسسين في حاضرات أيامنا؟

يوماً تلو الآخر، يظهر الكثير من الحقائق حول الشخوص الذين شاركوا في تلك الحفلات الماجنة. والمثير أن نسبة غالبة من الأميركيين والأوروبيين، من الطبقة النافذة، وصناع القرارات، من رؤساء، ورؤساء وزارات، ووزراء، وسياسيين ومفكرين، وكبار رجال الأعمال، وفنانين، وأعضاء من أسر حاكمة عريقة، كانوا أعضاء في ملهى الفساد الإبستيني غير الأخلاقي.

حكماً لن تكشف كل أسرار عن هذه الطغمة، لا سيما أن الكثير من أفرادها لا يزالون في مراكز غربية متقدمة، لكنَّ ذلك لن يمنع التساؤل عن معنى ومبنى ومغزى ما جرى، ودلالاته على مستقبل الغرب الأخلاقي.

عبارة ترمب المقتضبة تضعنا في حقيقة الحال أمام البحث عمّا جرى للروح الأميركية البيوريتانية – الطهرانية، التي استهلّ بها الآباء المؤسسون حياتهم «الرسائلية»، فوق الأراضي الأميركية، فقد عدّوا الجغرافيا المكتشَفة حديثاً، نوعاً من أنواع أرض كنعان الجديدة، أي الأرض التي فرَّ إليها بنو إسرائيل من مصر هرباً من بطش المصريين، حسب الرواية التوراتية.

رأى الأميركيون الأوائل أن المنظومة الإيمانية العشرية، المتمثلة في وصايا موسى، حجر الزاوية في بناء أركان تلك الدولة، واعتمدوا على أخلاقياتها، من عند «لا تكذب، لا تسرق، لا تقتل، لا تزني، لا تشتهِ مقتنى غيرك».

اليوم اختلف المشهد الأميركي جملةً وتفصيلاً، وبلغ السيل الزُّبى، كما يقال عربياً، وغالب الظن كانت اللحظة التي أعلن فيها باراك أوباما أن «الحب انتصر»، في إشارةٍ إلى قرار المحكمة العليا السماح بزواج المثليين عام 2015، هي بداية لتاريخ مغاير، وقراءة معكوسة لفكر جيفرسون وفرانكلين، وماديسون وجورج واشنطن، وغيرهم من حَمَلة الراية الدوغمائية الأميركية.

على الجانب الآخر من الأطلسي، تدخل أوروبا عاماً جديداً، بل ربما عقداً جديداً من المخاطر المحدقة بها من قبل تنامي التيار الشعبوي اليميني، لا سيما في ظل الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي تأتي بالأحزاب ذات التوجهات الشوفينية، وليس لها شغل شاغل سوى إشعال نيران الشوفينيات، وإطلاق سعير الراديكاليات الفكرية، والعودة إلى دروب الأحادية العرقية قبل الفكرية، وفي مقدم تلك المشاهد مطاردة المهاجرين واللاجئين، ووضع أحجار عثرة في طريق التلاقي مع المغاير دينياً وإيمانياً، مما يعني أن أوروبا قارة حضارة التنوير الأخلاقي والإنساني، تبدو في أزمةٍ لا تقل عن أزمة أميركا، لا سيما في ظل غياب قيم التسامح والتصالح، وظهور منعطفات الكراهية بقوة، حتى وإن كانت أميركا تعيش فجاجة واضحة ومخيفة، سوف تتعاظم في العام الجاري، عام الانتخابات الأميركية، إذ يخشى القاصي والداني أن تكون انتخابات تُفرِّق ولا توفِّق، وتجرح ولا تشرح، مما يعمِّق الشرخ الأخلاقي الأميركي، مؤسساتياً وشعبوياً.

هل هي بداية تقليدية لانهيار الحضارة الغربية، كما جرى مع حضارات سابقة من قبل، أم أنه لا تزال هناك طاقة نور في هذه الحضارة، قادرة على أن تبدد عتم الفخاخ التي وقع فيها الكثيرون من أبناء الحضارة الغربية؟

لا يبدو الجواب في حقيقة الأمر يسيراً، ولا نملك عليه دليلاً شافياً وافياً، وإنما نحاول تلمُّس طريق الجواب من خلال تجارب الإنسان وحكايا الزمان.

كتب المفكر العربي، رائد علم الاجتماع ابن خلدون، في مقدمته الخالدة يقول: «إذا تأذن الله بانقراض المُلك من أمة، حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طريقها، وهذا ما حدث في الأندلس، وأدى فيما أدى إلى ضياعه».

رؤية ابن خلدون للأندلس وما جرى فيها، يتسق مع ما جرى للدولة العباسية (750 - 1517)، التي لا يشكل غزو التتار لها الجزء الأكبر من أسباب انهيارها، حتى ولو كان السبب المباشر الذي أسقط عنها ورقة التوت، فيما كان السبب الرئيسي هو إهمال طبقتها السياسية أحوال البلاد والعباد، وانغماسهم في ملذّاتهم وترفهم، فعمَّت الفوضى واختلط الحابل بالنابل، والحق بالباطل، وانهار ميزان العدالة.

وبالرجوع إلى المؤرخ الإنجليزي الكبير إدوارد غيبون (1737 - 1794)، وكتابه العمدة عن اضمحلال الإمبراطورية الرومانية، نجد الكثير من النظريات السببية لانهيار هذه الإمبراطورية، إذ كان القلق الأكبر هو فساد المؤسسات السياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها من أركان المجتمع المشاركة في الحياة العامة، ولم يكن الفساد سوى الوجه الآخر للإغراق في الترف والملذات، والإكثار من المجون والشهوات، مما مكّن قبائل الفندال من هزيمة أعتى إمبراطورية في الزمن القديم.

هل أزمة الحضارة الغربية اليوم توالدت في الرؤوس والأفكار داخلياً، قبل أن تُترجم في أفعال على الأرض؟

هناك مَن يحاجج بأن الغرب يملك القدرة على تصحيح أخطائه بسرعة من خلال آلية النقد الذاتي والتصحيح المباشر، فقد عرفت قضية إبستين على سبيل المثال طريقها إلى المحاكم الأميركية، ولم يوفّر الإعلام الأميركي مناقشة حرة للمشهد بصورة أو بأخرى، مما يعني أن الحضارة الغربية وإن لم تمتلك حجر الفلاسفة، إلا أنها قادرة من خلال أنظمتها السياسية المفتوحة وإعلامها الحر، على المكاشفة البناءة.

هل ستتجاوز الحضارة الغربية كبوتها في حاضرات أيامنا؟

الرهان على ما تبقى من رجال ومرجعيات، والغد لناظره قريب.

 

omantoday

GMT 09:59 2024 السبت ,18 أيار / مايو

العناني واليونيسكو وترشيح صادف أهله

GMT 09:49 2024 السبت ,18 أيار / مايو

دعوة للإصلاح أم للفوضى؟

GMT 09:46 2024 السبت ,18 أيار / مايو

سمات التقدم

GMT 11:55 2024 الجمعة ,17 أيار / مايو

هوامش قمة البحرين: كثر الكلام وقل الخبز

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحضارة الغربية وأزمة الهوية الأخلاقية الحضارة الغربية وأزمة الهوية الأخلاقية



اختيارات النجمات العرب لأجمل التصاميم من نيكولا جبران

القاهرة - عمان اليوم

GMT 12:29 2024 السبت ,18 أيار / مايو

استلهمي ألوان واجهة منزلك من مدينة كانّ
 عمان اليوم - استلهمي ألوان واجهة منزلك من مدينة كانّ

GMT 14:30 2024 الجمعة ,17 أيار / مايو

«عادل إمام» الحاضر الأقوى في سينما 2024
 عمان اليوم - «عادل إمام» الحاضر الأقوى في سينما 2024

GMT 14:50 2019 الثلاثاء ,02 إبريل / نيسان

حافظ على رباطة جأشك حتى لو تعرضت للاستفزاز

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 16:43 2020 الجمعة ,28 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدّاً وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 08:49 2020 الجمعة ,30 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعة 30 أكتوبر / تشرين الأول لبرج الجوزاء
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab