من الواضح أن العالم منقسم تجاه تقييم حرب غزة والهجمة الشرسة من جانب الجيش الإسرائيلي على كل سكان القطاع بين مؤيد ومعارض، وتنقل لنا التلفزيونات في العالم يومياً تلك المشاهد البشعة للأطفال والشيوخ والنساء، تحت وابل من النار، يتكون الرأي العام بناء على جودة المعلومة التي تصل إليه وكيف تعرض.
في عالمنا اليوم تطور هائل، بل ثورة في الاتصال، ولذلك يمكن التضليل وتزييف المعلومات، ويمكن أن تنقل الحقيقة النسبية على الأقل، ومن هذا الجانب فإن الحصول على وثائق لها صلة بالواقع يبدو عسيراً في وسط دخان المعركة.
منصة «نتفليكس» دخلت على الموضوع من جانب التوثيق، وبناء على نصيحة صديق شاهدت بعض الوثائق التي عرضتها المنصة في صورة «أفلام موثقة»، وهما اثنان، الأول بعنوان «مولود في غزة»، «مدته أكثر من ساعة بقليل»، والثاني «حياة وأعمال شيمون بيريز»، «مدته أكثر من ساعتين بقليل».
الأول «مولود في غزة» يبدو أنه تم تصويره بعد حرب غزة قبل الأخيرة، أي عام 2014، التي أطلق عليها الجيش الإسرائيلي «الجرف الصامد»، وردّت عليها «حماس» بمعركة «العصف المأكول»، وكان عدد القتلى فيها من الفلسطينيين 2147 ومن الإسرائيليين 72.
الفيلم في مجمله يصور شباباً فلسطينيين يافعين، يسردون قصص عائلاتهم، واحد منهم عاري الأكتاف ويسوق حصاناً يجر خلفه عربة، ويعالج جموح الحصان بصعوبة لصغر سنة، ويعمل في التقاط زجاجات البلاستيك الفارغة من صناديق القمامة ويكدسها في العربة، ثم يذهب لبيعها بقروش قليلة كي يعيل أسرته، وهي أسرة تحت خط الفقر، ويقول إنه ترك الدراسة من أجل ألا يموت أهله من الجوع! ويسير الفيلم ليسرد قصصاً مثله من الأطفال، الذين فقدوا ذويهم، قال أحدهم: «لقد قتلوا كل متحرك، حتى الحيوانات» وجرفوا الأراضي وقتلوا الأطباء والمسعفين، في سيناريو يكاد يتكرر في حرب 2023. يشير إلى فقر أهل غزة، وأن 80 في المائة منهم يعتمد على إعانات من الخارج!
محزن ذلك الشريط الذي يأخذ المشاهد إلى قاع المجتمع الفلسطيني في غزة وقتها، وهو قاع يشترك فيه معظم السكان، فقر يقود إلى جهل «بترك المدرسة»، يقود إلى عنف، فلم يعد أحد في هذه الشريحة الواسعة من أهل غزة يعرف معنى الحياة لأنها تتساوى مع الموت!
في الشريط الثاني «حياة وأعمال شيمون بيريز»، وهو الرجل الذي أصبح رئيس وزراء، ثم رئيساً للجمهورية الإسرائيلية، ونال جائزة نوبل للسلام مع ياسر عرفات.
يُفتتح الشريط بجنازة بيريز، ويرى المشاهد صفاً من رؤساء الدول وقتها (سبتمبر - أيلول 2016) من رؤساء أمريكيين في السلطة أو سابقين إلى رؤساء غربيين ورؤساء حكومات، ويصف المشهد أن المتوفى «آخر المؤسسين» ولد في قرية «فيشنيقا» في بولندا وقتها عام 1923، التي أصبحت تابعة لروسيا البيضاء بعد الحرب العالمية الثانية، من أب يعمل بتجارة الأخشاب، وأم تعمل معلمة، إلا أن جده الذي احتضنه هو كما يروي الشريط كان له التأثير الأكبر في تربيته، وقد قامت السلطات البولندية في ثلاثينات القرن الماضي، مع تصاعد الكراهية ضد اليهود في أوروبا بشكل عام، بزيادة الضرائب على أعمالهم، ومنها أعمال الخشب، ما دفع الأسرة إلى الإفلاس، ودفع جزءاً من عائلته إلى الهجرة إلى فلسطين عام 1934 هرباً من الاضطهاد إلى الحرية، ويروي الشريط أن البواخر الكبيرة لم تكن لها مرسى، فينقل الركاب في قوارب صغيرة إلى ميناء حيفاء «وكان ملاحو تلك القوارب من العرب»!
يذكر بيريز أنه بوصوله إلى فلسطين شدته ظاهرتان؛ الأولى السماء الزرقاء الصافية، التي لم يكن يعرفها في أوروبا، والثانية الشمس الساطعة! أما والده فقد التحق بالجيش البريطاني محارباً في الحرب العالمية الثانية، وأسر من قبل الألمان أكثر من مرة، وهرب من الأسر! ثم انتقل للعيش مع الأسرة في فلسطين.
كان طبيعياً أن ينضم بيريز إلى الوكالة اليهودية للشباب التي نظمت المهاجرين الجدد الذين توزعوا في مستوطنات «الكيبوتس» في أنحاء فلسطين، مع أنه لم يكن عسكرياً، فإن بن غوريون لاحظ نشاطه في الشبيبة الإسرائيليين، فكلفه أن يكون المسؤول عن جمع وشراء السلاح كمدير مدني لوزارة الدفاع، وكان التوجيه له كما يقول الشريط: «عليك أن تحصل على السلاح، إما شراء أو سرقة أو انتزاعاً»! وقد بدأ بعد خروج بريطانيا من فلسطين عام 1948 بجمع السلاح وتجميعه في أوروبا ثم شحنه إلى الدولة الوليدة في فلسطين! في بداية الخمسينات قللت الولايات المتحدة السماح للسلاح بأن ينتقل لفلسطين، فكان أن تحول بيريز إلى أوروبا، وقتها كان الصراع الفرنسي في الجزائر على أشده، وكان الفرنسيون يرون أن من يدعم الجزائريين هو عبد الناصر، فاستفاد بيريز من ذلك وأقنع الفرنسيين بتصدير السلاح المتقدم للجيش الإسرائيلي.
اللافت هو سير العلاقات لاحقاً مع الحكومة الفرنسية، خاصة في موضوع تصنيع السلاح النووي، وعندما رفض الفرنسيون «بيع التقنية» اقترح عليهم بيريز حلاً وسطاً هو «إعارتها» وقد قبلت الحل الحكومة القائمة، إلا أنها سقطت في البرلمان، فأقنع بيريز رئيس الحكومة أن يوقع الاتفاق بتاريخ سابق لإسقاط الحكومة، وهكذا تم!! والتزمت الحكومات اللاحقة!!
يروي بيريز نفسه أن إنشاء المفاعل في ديمونة في النقب كان لإرسال رسالة إلى العرب أن هناك قوة رادعة لدى إسرائيل! وقد اقتنعوا بذلك، في تصريح يقصر عن الاعتراف بوجود سلاح نووي. يفلسف هذا التوجه بالقول: «إننا أرض صغيرة، علينا أن نعوض ذلك بعلم ضخم»!! ما تقدم هو ملخص غير كافٍ لأحداث الشريط.
الخلاصة العنف الذي لاقاه اليهود في الغرب عمّق لديهم عقيدة أن استمرارهم في الأرض هو سحق الآخرين، وخاصة الفلسطينيين، وتظهر تلك العقيدة بوضوح، وفي بعض الأوقات تخف في الحدة، ولكنها باقية، والحروب التي خاضوها تدل على ذلك، ولأنهم انتصروا في كثير منها أصبحت لديهم عقيدة ثانية بأنهم «لا بد منتصرون»! فالعملة الوحيدة التي يتوجب الاحتفاظ بها هي «العنف»، وهو الذي يصرف في هذا العالم، أما العقيدة الثالثة فهي العلم الحديث، وقد نقل عن مناحيم بيغن قوله: «أؤمن بالتوراة وأضع ثقتي في الفانتوم»!
آخر الكلام... التعاطي العربي مع القضية في الغالب عاطفي، مع تجاهل حتى ازدراء واضح لاستخدام العلم الحديث في هذا الصراع.