كانوا أكثر تسامحاً وفطنة

كانوا أكثر تسامحاً وفطنة!

كانوا أكثر تسامحاً وفطنة!

 عمان اليوم -

كانوا أكثر تسامحاً وفطنة

بقلم : محمد الرميحي

 

يأتي رمضان كل عام فيكثر ظهور من يرون أنفسهم "أهل فقه" في وسائل الإعلام المختلفة، كما تكاثروا في وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة. قليل منهم يعرف عماذا يتحدث، وكثير منهم يهرف في ما لا يعرف. وقد سمى الشيخ محمد الغزالي في كتابه "مئة سؤال عن الإسلام" تلك الظاهرة بـ "التدين الفاسد".

في الربع الأخير من القرن الماضي تفشى "التدين الفاسد"، والذي هو تسخير الدين للأهواء السياسية، وإن كانت له جذور في السابق، إلا أن الأفكار الوطنية التي تغلبت إبان كفاح شعوب المنطقة ضد الاستعمار الكلاسيكي أبطأت من تأثير ذلك على الجمهور العربي العام.

بداية من منتصف سبعينات القرن الماضي وما بعدها نشأت ظاهرة تم التعارف على تسميتها بالصحوة، وهي تعني لدى جمهورها غلبة التفسير الديني للظواهر الاجتماعية تفسيراً نكوصياً، وابتُلي هذا الدين العظيم بأناس قاموا بتسليعه! وكان أن زادت هذه الموجة بعد ما حدث في إيران نهاية السبعينات، وما اعتقدته بعض الدول من أن مواجهة ذلك التيار المتعصب تكون بتيار متعصب آخر، وصب الزيت على النار في الاشتراك النشط في مقاومة الاحتلال السوفياتي لأفغانستان من خلال تشجيع التشدد. كل تلك العوامل أفضت إلى حركة سياسية شبه فكرية سماها أصحابها الصحوة. إلا أن رجالاً لهم قدم ثابته في الفقه والقانون كتبوا ضد تلك الأفكار، منهم الشيخ محمد الغزالي، وأيضاً أحمد كمال أبو المجد في كتابه "حوار لا مواجهة" والذي كان عبارة عن سلسلة مقالات نشرت في "العربي" بطلب من كاتب هذه السطور وقتها.

إلا أن الفترة الزمنية قبل السبعينات شهدت نشاطاً فكرياً متميزاً وعقلانياً، وبخاصة في الموضوع المطروح وهو المواءمة بين النص ومتغيرات الحياة، فعند تصفح مجلة "العربي" الكويتية (وهي الآن متاحة في الشبكة الدولية مجاناً) نجد مقالة كتبها كبير المحررين في المجلة آنذاك، عبد الوارث كبير، بعنوان "ليس ما في كل صحيح البخاري صحيحاً" ونشر في عدد الأول من شباط (فبراير) 1966 (قبل نحو ستين عاماً من اليوم). انتقد الكاتب في المقالة بعض ما ورد في صحيح البخاري قابضاً على عدد من الشواهد التي يرى أنها تناقض العقل، ومعتمداً على فقهاء مثل القسطلان والبيهقي وحتى ابن تيمية. المقالة لم تثر صخباً ولا سخطاً من حراس النيات، كما يمكن أن تثير لو نُشرت اليوم، ولكن تناول مناقشتها بالحسنى بعض الثقاة، فنجد مقالة مطولة في عدد "العربي" الذي صدر بعده، أي في شهر آذار (مارس 1966) بقلم الدكتور أحمد عبد المنعم البهي، وهو عالم معروف في وقته، وكان أستاذاً في كلية الدراسات العليا في جامعة الأزهر، يناقش ما ذهب إليه عبد الوارث كبير مناقشة عقلية، فيحذر أولاً مما سماه "الإسرائيليات" التي نقلها المفسرون بحسن نية (على حد قوله)، ويذهب إلى أن الرواة كان همهم الأساس هو تدقيق السند وليس المتن، والمقالة ( الرد) فيها من الواقعية الاعتراف بأن بعض ما نقل، حتى في ظاهره، يناقض النص القرآني، كما استشهد البهي بحديث نقل عن أبي هريرة من أن الله خلق الأرض والسموات في سبعة أيام، والنص القرآني يجزم بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام.

ليس المهم نقل تلك المناقشة إلى القارئ الكريم اليوم (لأنها وغيرها متاحة كما قلت على الشبكة الدولية)، المهم هو التأكيد أنه كان هناك سقف من الحرية الفكرية التي سمحت لمجلة عربية ذائعة الصيت وقتها بأن تحمل على صفحاتها تلك المناقشة الفكرية العميقة، من دون تخوين أو تكفير أو ادعاء ملك الحقيقة المطلقة، كما فعل أهل الصحوة ومن تبعهم إلى اليوم، في احتكار الحقيقة، وأن المقدس هو النص القرآني الذي يجب أن يُفهم من خلال أسباب النزول، وفهم "الناسخ والمنسوخ" مع تغير ظروف الوقائع الإنسانية كما ذكر البهي في مقالته المتميزة، حيث إن "الإنسان على نفسه بصيرة".

يفرق العلماء بين الديانات الحق، والتي هي مصدر كل إيمان وتدين، و"الكهانات" التي ابتدعها الطفيليون ليفسدوا على الناس أمر دينهم.

في الديانات الأخرى أيضاً الكثير من "الكهانات" التي يعتبرها المتشددون من صلب دينهم، كنجاسة الأصلع في اليهودية مثلاً! أو أن الثور النطاح يُرجم وصاحبه (إن لم يردعه) يُعدم، كما أباحت الرباء من الأغراب ولكن ليس من الإخوة في الدين!

المرونة هي نقيض التشدد، وما تبع مجتمع التشدد في أي مجال حتى عاد عليه بالوبال، سواء سياسياً أم اجتماعياً، واختطاف الدين، أي دين، لأسباب سياسية، هو فساد في الأرض.

اليوم وفي رمضان سوف نشاهد مجموعة من المتفقهين (يشترون بها ثمناً قليلاً)، وكثير منهم لم يتبحر في الدارسة والدراية وفهم المجتمع والعالم وظروف الناس، فيأتي بعضهم من تخصصات بعيدة كمثل محاسب استحسن صوته وإلقاءه فأصبح "داعية"، أو طبيب قرأ بعض النصوص فأصبح "فقيهاً"، ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تعج بهذه الفئة التي تكثر في المواسم التي يعتقد، حتى القائمون على وسائل الإعلام، أنها مناسبة جيدة لشد المشاهد والتي تكثّف الإعلانات والدخل.

هي حلقة يحاول المجتمع العربي، وحتى بعض الحكومات، فك حصارها. إن ذلك الفك يحتاج إلى شجاعة وإرادة ورجال علم وفضاء من الحرية ربما افتقده المجال العربي منذ ستينات القرن الماضي. ما حولنا في الغالب هو إرهاب وأكثر أنواع الإرهاب تدميراً هو الإرهاب الفكري، لقد كان الأولون قبل الصحوة أكثر تسامحاً وأوسع فطنة.

omantoday

GMT 22:25 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

حل الدولتين؟

GMT 22:23 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

شكراً إيران

GMT 22:22 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

عودة إلى «حرب الظل» بين إسرائيل وإيران!

GMT 22:21 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

«منبر جدة» والتوافق السوداني المفقود

GMT 22:19 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

الأردن من أيلول الأسود لليوم

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كانوا أكثر تسامحاً وفطنة كانوا أكثر تسامحاً وفطنة



نجوى كرم تتألق في إطلالات باللون الأحمر القوي

مسقط - عمان اليوم

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 20:41 2020 السبت ,05 كانون الأول / ديسمبر

يوم مميز للنقاشات والاتصالات والأعمال

GMT 19:24 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 16:43 2020 الجمعة ,28 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدّاً وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 22:03 2020 الثلاثاء ,30 حزيران / يونيو

الضحك والمرح هما من أهم وسائل العيش لحياة أطول

GMT 21:30 2020 الثلاثاء ,30 حزيران / يونيو

تعيش ظروفاً جميلة وداعمة من الزملاء
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab