المريض الفرنسي

المريض الفرنسي

المريض الفرنسي

 عمان اليوم -

المريض الفرنسي

بقلم:غسان شربل

يعرف إيمانويل ماكرون القصة. أنهى أسلافه ولاياتهم مع طعم المرارة. استنتجوا أن الفرنسيين أقل من لمعان فرنسا. تطالبهم فرنسا بما يناقض رغباتهم. يطالبونها بما يفوق قدرتها. لا هي تعترف بأن الشعب تغير. ولا الشعب يعترف بأنها تغيرت. حوار طرشان. وأمواج عنف. وسوء تفاهم عميق لا تبدده الخطط الحكومية ودعوات التعقل.

يعرف ماكرون القصة. يحمل الفرنسيون رجلاً إلى القصر. ثم يتسلون بإطلاق السهام عليه. يستعذبون استنزاف الدولة ورئيسها. ألهبوا الشوارع في 1968 وأحرقوا دُمى الجنرال المديد القامة والتاريخ شارل ديغول. بعد عام اغتنم أول فرصة للاستقالة من مصيرهم. قال إنه تعب من فوضى أذواق شعب يملك مئات الأصناف من الجبنة والنبيذ. فضّل انتظار الموت تحت أشجار كولومبه لا دو زيغليز على انتظاره في «قفص» الإليزيه.

فرنسوا ميتران. الساحر. البارع. المثقف. العاشق. تعب هو الآخر منهم. في آخر عهده وبينما كان يلاعب السرطان لم يكن يخفي خيبته. كان واثقاً أنهم لن يتأخروا في مكافأته بنسيانه. ولم يتردد عشية المغادرة في القول لصديقه: «في الواقع أنا آخر الرؤساء الكبار». وكأنه كان يحدس بأن فرنسا تنزلق إلى التحول دولة عادية يدير فوضاها رجال عاديون.

جاك شيراك الذي أقام طويلاً في قلعة بلدية باريس زارته المرارة أيضاً. غادر من دون أن ينسى حرائق عام 2005، وغضب الضواحي، ومشاهد السيارات المحترقة والواجهات المحطمة. لا شيء يربط اليوميات الفرنسية بعظمة فرنسا.

فاليري جيسكار ديستان الذي ضخ قدراً من الحداثة في عروق «الجمهورية الخامسة» واعتنق الحلم الأوروبي غادر خائباً. بخل عليه الفرنسيون بولاية ثانية فلازمه شعور من «تعذر عليه إنهاء المهمة». من كرسي التقاعد راح يراقب المصير الفرنسي في ظل مَن تعاقبوا بعده. في عام 2017 كتب الرجل التسعيني في مجلة «لوبوان» الفرنسية مقالاً واقعياً وصادماً. قال إن «فرنسا مريضة وعلى الشعب علاجها». قال إن الاقتصاد لم يعد تنافسياً وإن معظم ما يستهلكه الفرنسيون صُنع في الخارج. لاحظ تراجعاً في التعليم وفي فاعلية القضاء، وتراجعاً في دور فرنسا على الصعيدين الأوروبي والدولي.

فرنسا مريضة. ها هي تلتهب بفعل جريمة إقدام شرطي على قتل مراهق من جذور غير فرنسية. وعلى رغم توقيف الشرطي وتوجيه تهمة القتل العمد إليه، أدت الشرارة إلى اشتعال حريق. وما كانت فرنسا لتواجه هذا المصير لولا الشعور الموروث في الضواحي بأن الجريمة ما كانت لتحصل لو كان المراهق من أصول أخرى وملامح مختلفة. لا يمكن إنكار أن الحكومات المتعاقبة أنفقت مليارات فيما سمتها «خطط الاندماج»، لكن الواضح أن تلك الخطط لم تنجح.

فرنسا مريضة فعلاً. لم تتنبّه بما يكفي إلى التغييرات الديمغرافية التي طرأت عليها، خصوصاً في العقدين الأخيرين. ترفض الاعتراف بأن «الفرنسيين الجدد» لا يشبهون «الفرنسيين القدامى». تقف مرتبكة أمام الحقائق الصادمة. مراهق فرنسي في الضواحي لا يريد أن يشبه فرنسا التي استضافت والده وفتحت أمامه فرصة العمل. يكره الشرطة ويشم في تحركاتها رائحة العنصرية. لا يثق بالقضاء ويعتبره ظالماً أو منحازاً. لا يثق بالمؤسسة برمتها. يعتبر ظروف العيش في الحي الذي يقيم فيه عقاباً له ولأشباهه. لا يعتقد بأن صناديق الاقتراع هي السبيل لحل المشكلة. يرى لمعان الواجهات استفزازياً ويغتنم فرصة تسديد الحسابات معها. يضرم النار في السيارات ويبتهج كمن يرى في الحرائق أبلغ رسائله. ودائماً هناك أقلية لا تترك سانحة إلا وتنطلق في أعمال النهب والتخريب مقدمة لليمين المتطرف ذخيرة جديدة في عدائه للمهاجرين.

هل عقّدت التكنولوجيا الاندماج؟ واضح أنها ساهمت من دون أن تقصد في جزء من المشكلة. قبل عقود كان المهاجر يصل حالماً بفرصة عمل وحياة أقل قسوة من تلك التي كابدها في بلده الأصلي. لم يكن الاتصال المفتوح متاحاً مع الأرض التي غادرها. اليوم باستطاعة الوافد أو ابنه الذي وُلد في فرنسا أن يبقى موصولاً عبر هاتفه أو حاسوبه مع القرية التي جاء منها. ويمكن أن يبقى منخرطاً في صراعات بلاده الأصلية، وأن يعتبر هويته مقدسة لا تمس ولا تحتمل الاغتناء أو التعديل أو القبول بقيم أخرى يروّج لها مجتمعه الجديد المختلف دينياً أو عرقياً أو ثقافياً. ثمة مراهق فرنسي لا يعنيه النشيد الوطني ولا يستسيغ قيم الجمهورية.

الحديث عن دور وسائل التواصل الاجتماعي ونهر الكراهيات المتدفق عبرها لا يقلل أبداً من دور عناصر أخرى، منها الفقر والتهميش.

الحوارات والمشاهد التي بثتها الشاشات الفرنسية في الأيام الأخيرة عبّرت عن حجم التمزق في المجتمع، وحجم الإرباك في البحث عن حلول. القمع لا يشكل حلاً لكن شيوع الاستباحة ينذر بكارثة. ثمة من يتخوف من تحول فرنسا إلى مكان تتنازع فيه «شعوب فرنسية» تتحصن داخل جزرها مع مشاعر الخوف والكراهية وشبح الإقصاء والصدام وبذور «الحرب الأهلية». انحسار حكم القانون ليس حلاً على الإطلاق، لكن الحل يتخطى بكثير استعادة الهيبة. الحل يستلزم تشخيصاً دقيقاً للمرض، وخطة اقتصادية وسياسية وثقافية لإشراك الفرنسيين في دورة عيش واحدة، وفي ظل مؤسسات تتسع للجميع ويمكنهم الاحتكام إليها.

لا بد من العودة إلى إصلاح الشرطة والتفكير في التعليم وفي خطة ثقافية تعيد ترميم موقع الحوار والحق في الاختلاف تحت حكم القانون. اعتبار «الفرنسيين الجدد» قنبلة موقوتة وخطراً على الهوية لن يحل المشكلة. في المقابل على هؤلاء فتح النوافذ؛ لأن إنهاك فرنسا وتعطيلها سيصيبان كل المقيمين على أرضها بلا استثناء.

إيمانويل ماكرون سيّئ الحظ فعلاً. فرنسا مريضة في الداخل ومريضة في الخارج. نجح فلاديمير بوتين بغزوه أوكرانيا في الدفع باتجاه عالم متعدد الأقطاب لكنه أسهم في الوقت نفسه في إضعاف موقع أوروبا، ومن ضمنها فرنسا، من دون أن ننسى مساهمته الكبيرة في إضعاف موقع بلاده. ينظر ماكرون قلقاً إلى أحوال المريض الفرنسي آملاً بألا يخيّبه الفرنسيون في العثور على علاج كما خيّبوا أسلافه.

omantoday

GMT 17:01 2024 الجمعة ,03 أيار / مايو

أصغر من أميركا

GMT 16:59 2024 الجمعة ,03 أيار / مايو

ملحمة وطنية للأبطال الذين أُزهقت أرواحهم!

GMT 16:58 2024 الجمعة ,03 أيار / مايو

العلم في مكان آخر

GMT 09:43 2024 الخميس ,02 أيار / مايو

كيف يفكر نتانياهو؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المريض الفرنسي المريض الفرنسي



نجوى كرم تتألق في إطلالات باللون الأحمر القوي

مسقط - عمان اليوم

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 20:50 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

النوم الجيد يطيل حياة الإنسان ويضيف سنوات لعمره

GMT 16:53 2020 الجمعة ,28 شباط / فبراير

تزداد الحظوظ لذلك توقّع بعض الأرباح المالية

GMT 17:31 2020 الجمعة ,28 شباط / فبراير

يولد بعض الجدل مع أحد الزملاء أو أحد المقربين

GMT 16:52 2020 السبت ,05 كانون الأول / ديسمبر

تستفيد ماديّاً واجتماعيّاً من بعض التطوّرات

GMT 17:12 2020 الجمعة ,28 شباط / فبراير

يبدأ الشهر بيوم مناسب لك ويتناغم مع طموحاتك
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab