مزبلة التاريخ أم مزابل الواقع

مزبلة التاريخ أم مزابل الواقع؟

مزبلة التاريخ أم مزابل الواقع؟

 عمان اليوم -

مزبلة التاريخ أم مزابل الواقع

بقلم:حازم صاغية

في السجالات المألوفة التي تواكب أحداثاً كبرى، كما الحال مع حرب غزّة، يُكثر البعض استخدام «التاريخ» في مواجهة مَن لا يرون رأيهم. فالأخيرون يوصفون بأنّهم لا يقفون «في الجانب الصائب من التاريخ»، وهم لا بدّ أن ينتهي بهم المطاف إلى «مزبلة التاريخ»، في استعارة منهم للتعبير الذي استخدمه ليون تروتسكي لدى الحديث عن خصومه من المناشفة الروس.

والحال أنّ تمثيل التاريخ والاستحواذ عليه يبقيان أمراً يجتمع أقصى الإثارة المشهديّة وأقلّ التواضع. فتجارب الحياة تبرهن، مرّة بعد مرّة، كم أنّ القدرة على التكهّن واستشراف اليوم التالي أمر محدود ومشروط. وبين الذين فكّروا في المسألة وآثروا التواضع في التكهّن مَن ردّوا تلك المحدوديّة إلى سبب بسيط: فنحن حتّى لو عرفنا الماضي معرفة دقيقة وحميمة، تبقى معرفة كهذه ضئيلة جدّاً بقياس الإمكانات الجديدة التي سيحبل بها المستقبل. فلا الطبيعة ولا أمزجة البشر ولا احتمالات الخطأ ولا سواها من العوامل تتيح لنا أن نجزم بالآتي جزماً لا عودة عنه.

وضدّاً على هذا الرأي الذي يفترض أنّ الآتي المجهول والمفاجىء غيرُ الماضي المعلوم، وُجد دائماً من يجزمون، زاعمين لأنفسهم إلماماً قاطعاً بوجهة التاريخ، أنّ الغد تتمّة أمينة للأمس. وكان طبيعيّاً لهؤلاء أن يروا أن تلك الوجهة تكراريّة، وأنّ «العودة» المبدأُ الذي يحكمها. فالمسيح، عند المسيحيّين المؤمنين، عائد لا محالة، تماماً كما أنّ المهديّ، وفق المسلمين الشيعة المؤمنين، عائد. وهكذا يتحرّك التاريخ بين ذهاب، هو اللحظة الشرّيرة والشيطانيّة، وعودة، هي اللحظة الطافحة خيراً ويُمناً. وفي الغضون هذه، وعلى ما أخبرنا مؤخّراً علي خامنئي، فإنّ حروب الحاضر والمستقبل لا تكون سوى استعادة لحروب الماضي، إذ «المعركة بين الجبهة الحسينيّة والجبهة اليزيديّة معركة مستمرّة».

لكنْ، من موقع آخر، ومع تأسيس «علم التاريخ» في ألمانيا القرن التاسع عشر، حلّ خطّ من الصعود اللولبيّ محلّ الخطّ التكراريّ ذاك. فوفق هيغل، تنتقل الفكرة، أو الروح، على نحو ديالكتيكيّ من سويّة إلى أخرى أعلى إلى أن ينتهي بها المطاف إلى ثنائيّ العقل والحرّيّة. أمّا الشكل الماديّ الذي تتجسّد به الفكرة فهو الدولة التي تبلغ ذروتها مع الدولة البروسيّة لزمنه. وبدوره، تبنّى كارل ماركس هذا الديالكتيك الهيغليّ إلاّ أنّه «أوقفه على رأسه»، بمعنى أنّه أحلّ الإنتاج، في علاقاته وقواه، محلّ الفكرة، بوصفه سائق التاريخ. وفي الزمن الستالينيّ، تفنّن بعض الماركسيّين في رصد الحقبات التي عبرها التاريخ، والتي يُفترض أن يعبرها، فإذا هي خمس تنتهي في الشيوعيّة.

وكان فرنسيس فوكوياما، في أيّامنا، آخر من أفتى في شأن التاريخ بحركته ووجهته، فأعلن، مع نهاية الحرب الباردة، عن إقفاله على انتصار كاسح ونهائيّ للديمقراطيّة الليبراليّة.

ورغم اختلاف النشأة الفكريّة، والفوارق التي تفصل بين مؤمن وملحد، و»يمينيّ» و»يساريّ»، يبقى أنّ النهاية السعيدة قاسم مشترك بين مدارس الجزم بوجهة التاريخ. فالخلاص سوف يعزف نشيده في النهاية، وسوف تعود البشريّة إلى زمن يشبه الزمن الذي ساد قبل أن يُطرد آدم وحواء من الجنّة وتتردّى العلاقة بين الخالق والمخلوق. إذ هل يُعقَل أن لا ينتصر الحقّ والعدل على الباطل والظلم، وأن لا يُعطى للمتفائلين بالأمل والسعادة ما تفاءلوا به؟

ونظراً إلى القوّة التي تتمتّع بها فكرة «العودة»، استعان بعض الملاحدة بالفكرة المذكورة لدى المؤمنين فصاروا يتوقّعون «عودة» ماركس كلّما ألمّت أزمة باقتصاد راسماليّ، وهذا علماً بأنّ القيّمين على ذاك الاقتصاد لم ينفوا عيشه في أزمات. أمّا الذين يشكّكون بالعودة تلك، تشكيكهم بالعودات السابقة، فلن يكون في انتظارهم، بحسب العارفين بوجهة التاريخ، سوى «مزبلته».

هكذا تنتقل المعرفة المزعومة بالتاريخ إلى تملّكٍ له من صنف إقطاعيّ، يتيح توزيع أعطياته على الناس، فيُمنح البعض أسرّة وثيرة في صالونات التاريخ، بعدما يُلقى بسواهم إلى مزبلته.

وكان التاريخ الأوروبيّ الحديث قدّم عيّنتين صارختين عن ضعف التكهّن بالتاريخ، فضلاً عن عيّنات عديدة أخرى أقلّ دويّاً. فقد اندلعت الحرب العالميّة الأولى حين كان الأوروبيّون يستمتعون بـ «الزمن الجميل» الذي بدا معه أنّ الحروب أُحيلت إلى المتاحف، ثمّ كان الصعود الهمجيّ للنازيّة في ألمانيا، أي في البلد إيّاه الذي أعلنه هيغل مهداً للفكرة والروح في أعلى تجلّياتهما. ولاحقاً، حينما سقطت الشيوعيّة السوفياتيّة التي ظنّ بعض الماركسيّين أنّها أعلى ذرى التاريخ، صاغت النكتة الروسيّة موقفها من التكهّن التاريخيّ القاطع، فقالت إنّ الاشتراكيّة هي الطريق الأطول من الرأسماليّة إلى الرأسماليّة.

ويبقى المولعون بالعرافة والتنجيم وقراءة البخت هم الأكثر انجذاباً إلى الجزم بوجهة التاريخ، والأشدّ حماسة لإحالتنا إلى مزبلة لم تعدد تتّسع لأحد بسبب ملايين الناس الذين حُشروا فيها. أمّا تجنّب السقوط في مزبلة الواقع فلا يحظى، للأسف، بما يستحقّه من عناية.

omantoday

GMT 08:53 2024 السبت ,14 أيلول / سبتمبر

صحافة... وسمك وبطاطا

GMT 08:52 2024 السبت ,14 أيلول / سبتمبر

ممنوع الاقتراب والتصوير والتفكير

GMT 08:51 2024 السبت ,14 أيلول / سبتمبر

منع الشطط في مسألة القطط

GMT 08:50 2024 السبت ,14 أيلول / سبتمبر

الديمقراطية... الرأي الآخر!

GMT 08:49 2024 السبت ,14 أيلول / سبتمبر

تكهنات ليختمان... بين الاحتمالات والمتغيرات

GMT 08:48 2024 السبت ,14 أيلول / سبتمبر

إيه هى السعادة؟

GMT 08:47 2024 السبت ,14 أيلول / سبتمبر

مسألة فيها نظر

GMT 08:47 2024 السبت ,14 أيلول / سبتمبر

إنها المسؤولية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مزبلة التاريخ أم مزابل الواقع مزبلة التاريخ أم مزابل الواقع



ياسمين صبري بإطلالات أنيقة كررت فيها لمساتها الجمالية

القاهرة ـ عمان اليوم

GMT 10:06 2024 السبت ,14 أيلول / سبتمبر

إسرائيل تفرج عن 9 معتقلين من قطاع غزة
 عمان اليوم - إسرائيل تفرج عن 9 معتقلين من قطاع غزة

GMT 15:34 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عيوب ومميزات كلًا من سيارات السيدان والهاتشباك
 عمان اليوم - عيوب ومميزات كلًا من سيارات السيدان والهاتشباك

GMT 20:38 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

"ارتفاع مقلق" بوفيات جدري القردة خلال أسبوع واحد

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 21:26 2020 الثلاثاء ,30 حزيران / يونيو

كن قوي العزيمة ولا تضعف أمام المغريات

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab